تضم شقة زايدي عمار الواقعة بإحدى عمارات حي السانكلو، بعنابة، متحفا مصغرا عن الثورة الجزائرية وعن كفاح الجنود الجزائريين في صحراء سيناء وقناة السويس ضد العدوان الاسرائيلي في حرب 1967، وتحمل جدران صالون الشقة صورا لأدق وأهم تفاصيل الثورة التحريرية الكبرى وأخرى لمشاركات الجيش الوطني في الحرب العربية ضد الصهاينة، في عز مجد الجزائر إبان حكم الرئيس الراحل هواري بومدين.
"الشروق اليومي" زارت عمي عمار صاحب الـ72 عاما، وهو أب لخمسة أبناء، التحق بالثورة التحريرية في عام 1957 بمدينتي عنابة والطارف، وهو لا يتجاوز الـ16 من ربيع عمره، بعد أن تعرض للإهانة على يد شرطي فرنسي بوسط المدينة، وعمل في أثناء الثورة تحت قيادة الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد، بالفيلق رقم 1 وقبلها تحت قيادة معزوزي والشهيد البطل بوطرفة الفاضل.
وعلى الرغم من أن السنوات الطوال أخذت الكثير من صحة وجهد عمي عمار، وأخذت منه أيضا جزءاً من ذاكرته، إلا أن هذا البطل لم يغفل شاردة ولا واردة بشأن ما عايشه في الثورة التحريرية أو حرب الاستنزاف، وظل يسجل كل ما حصل في كراسة نقلها في ما بعد إلى سجل كبير يحوي كل تاريخه وتاريخ منطقة الطارف وعنابة والفيلق الذي كان تابعا له.
وعن حرب الاستنزاف وتاريخ المواجهات مع الكيان الصهيوني يعود بنا العريف الأول عمي عمار إلى تاريخ الثاني من شهر جوان من عام 1967 عندما جاءهم نداءُ الالتحاق من القيادة الوطنية للجيش بالعاصمة الجزائر رفقة 24 فيلقاً آخر من مناطق عدة من نواحي البلاد، يدعوهم فيها لتحضير أنفسهم قصد الالتحاق بجبهات القتال مع الجيش المصري والجيوش العربية ضد القوات الإسرائيلية.
ويروي بأنهم لما التحقوا بالثكنة العسكرية بزرالدة، جاءهم الرئيس الراحل هواري بومدين وألقى فيهم خطبته الحماسية الشهيرة، مشيرا إليهم بأن هذه الرحلة قد تكون رحلة اللاعودة ولكنها ستكون على العكس من ذلك رحلة نحو الجنة بإذن الله، داعياً إياهم إلى القتال ببسالة وشرف، والجهاد في سبيل الله ومقاتلة العدو الإسرائيلي ودحره وملاحقته تماما كما كانوا يفعلون ضد العدو الفرنسي بالجزائر أثناء الثورة التحريرية، وقال إن بومدين كان يتمنى النصر على الصهاينة أو الاستشهاد بشرف في ساحات القتال، وأما مسألة الانسحاب أو وقف القتال فلم تكن مطلقا في مفكرة المجاهد الكبير محمد بوخروبة "بومدين"، وأضاف بومدين للجنود الجزائريين بأن القيادة قد اختارتهم واحدا واحدا من أولئك الذين برزوا في ميادين الثورة التحريرية قصد تمثيل الجزائر والشعب الجزائري في جبهات القتال في مصر والمنطقة العربية.
بومدين خطب فينا قائلا: اخترناكم لتشريف الجزائر واعلموا أنكم قد لا تعودون لدياركم.. لكن الشهادة أروع
ويروي عمي عمار، بأنه من أوائل طلائع الملتحقين بجبهات القتال، إذ حُولوا بعدها مطار بوفاريك العسكري، يقول المعني: ركبنا طائرات الطونوف باتجاه مطار بنغازي في ليبيا حيث مكثنا قبل أن نواصل الرحلة نحو مطار القاهرة ووصلنا في الخامسة صباحا، وزُودونا بحبات بسكويت ومشروبات غازية، وهنا يستحضر عمي عمار كيف أن جنرالا مصريا قدّم له التحية العسكرية بعد أن وصل غليه ووجده صغيرا وعلم من قائد الفرقة بأنه كان مجاهداً في الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وبعدها حُولوا إلى الكلية الحربية، وهنا أشار إلى أن المصريين سواءً مدنيين أو عسكريين استغربوا من اللباس العسكري الرفيع الذي يرتديه الجنود الجزائريين واحتاروا كيف لدولة خرجت لتوِّها من أعظم وأطول ثورة في التاريخ الحديث أن تمتلك جيشا بهذه الاحترافية والنوعية.
وبعدها تم تحويل الكتائب والفيالق الجزائرية على متن القطارات نحو قناة السويس، أسخنُ منطقة في تلك الفترة، ووصلوا بالموازاة مع اشتباكات ومواجهات عنيفة بين القوات الإسرائيلية والجنود المصريين، ولأن عمي عمار كان مثقفا ويتقن الكتابة والقراءة بالعربية والفرنسية فإن القيادة هناك ارتأت توظيفه في منصب الأمانة، لإعداد التقارير والتواصل بين وحدات الجيش الجزائري والمرابضة هناك موازاة مع مشاركته في القتال بين الفينة والأخرى وتقديم الدعم والمساعدة للعسكريين في حالات الضرورة.
ويتحدث عمي عمار عن معركة ساخنة بين الجيوش العربية والجنود الصهاينة بتاريخ 13 جويلية 1967، أعطيت فيها الأوامر للجيش الجزائري وللفيلق الذي كان ينتمي إليه المتحدث بعدم التحرك وعدم إطلاق أي قذيفة على الرغم من جاهزيته وعلى الرغم من أنه كان يتعرض للقصف في الآن نفسه لأسبابٍ يصفها المعني بـ"الغامضة والمجهولة"، علما أن الجيش الجزائري كان مزوّدا بأسلحة حديثة ورفيعة غير أن القيادة المصرية رفضت إعطاءه الضوء الأخضر للمشاركة في عمليات التصدي للهجوم الإسرائيلي، وقد دامت هذه المواجهات ثلاثة أيام خرج بعدها الجيش الجزائري غير بعيد عن قناة السويس في صحراء قاحلة.
وبتاريخ الرابع من شهر أوت من العام نفسه شاركت القوات الجزائرية في واحدة من المعارك الكبرى، ضد الجنود الإسرائيليين والغريب في الأمر أن غالبية القذائف والصواريخ التي كانت تطلقها وحدات الجيش الإسرائيلي كانت باتجاه هدف واحد وهو مواقع الجنود الجزائريين، غير أن تعليمات كل من المرحوم عبد الرزاق بوحارة والقائد معزوزي بعدم إعطاء الثقة لأي من الجيوش العربية وعدم تقديم أية معلومة تخص قدرة ومكان تواجد القوات الجزائرية إضافة إلى فطنة وذكاء وحنكة القيادة جنَّب خسائرَ بشرية بليغة بين المقاتلين الجزائريين، باعتبارهم كان الهدف الأول.
القصف الصهيوني كان مركزاً على مواقعنا لكن فطنة عبد الرزاق بوحارة وسرّية تحرّكات الجنود الجزائريين جنّبهم خسائرَ فادحة في الأرواح
وفي يوم السادس من الشهر والعام نفسه، حضر إليهم وزير الدفاع المصري آنذاك يسأل إن كانوا فعلا قد أطلقوا قذائفَ وأعيرة نارية وصواريخ ضد الصهاينة؟ وفي اليوم الموالي حضر قائد العمليات الجزائرية الرائد زرقيني ليشكر طاقم الفيلق على المجهودات المبذولة، وشارك عمي عمار رفقة زملائه المصريين في صد هجوم إسرائيلي بسلاح مدفعية الميدان بتاريخ الـ27 من شهر أوت من عام 1967، وكان عمي عمار شاهدا على العملية العسكرية الإسرائيلية ضد آبار البترول والمنشآت البترولية الموجودة على مستوى قناة السويس من طرف القوات الإسرائيلية باستعمال أحدث الطائرات الأمريكية. وبدأت العملية حسب المعني في حدود الساعة الثانية والنصف زوالا ودامت إلى حدود الساعة الخامسة مساءً، ثم وصل أحد مبعوثي الأمم المتحدة الذي أمر بوقف إطلاق النار، ويتحدث عمي عمار عن سقوط ضحايا مصريين وجزائريين جنبا إلى جنب بتاريخ الـ25 من شهر أكتوبر عندما باغتت القوات الإسرائيلية موقعا للجيش المصري وجهت من خلاله عدة قذائف وقنابل وشارك في التصدي لهذا الهجوم أبطالٌ جزائريون، وبتاريخ الـ21 من شهر نوفمبر تم تحويل الجيش الجزائري من قناة السويس نحو الإسماعيلية قصد التحضير لإعادة بعضهم إلى أرض الوطن، وقال عمي عمار بأنه عاد من جديد إلى مصر عام 1968، لكنه يتحدث بحسرة عن فشل الحرب العربية ضد الإسرائيليين لأسباب تتعلق بالخيانة وانعدام الثقة وعدم الجدية من قبل عناصر باقي الجيوش العربية.