يعود بنا العريف محمد بن زيان ابن مدينة غليزان، إلى مشاركته الميدانية رفقة الجنود الجزائريين في حرب الاستنزاف التي لا تزال فصولُها عالقة بذهنه رغم تقدمه في السن حيث يبقى يحتفظ بالكثير من الذكريات والتي يسرد بعضها لقراء "الشروق" بكل اعتزاز وفخر عن تلك الحرب التي واجه فيها الجزائريون القوات الإسرائيلية بضراوة وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية.
عمي محمد صاحب الـ 73سنة، وبدون أي تفكير، وبمجرد لقائنا به بدأ بسرد أهم ما عايشه بمصر وبميدان الحرب على أطراف "البحيرة المرة" التي كان يتخندق بها رفقة جنود جزائريين كانوا ضمن 800 جندي قدموا يوم 18 أكتوبر سنة 1968 من الجزائر انطلاقا من مطار طفراوي بوهران باتجاه القاهرة مروراً بطرابلس الليبية حيث كان عمي محمد مكلفا بالعتاد الثقيل للجيش الجزائري.
يقول بن زيان بأنه لما كان يعمل بصفوف الجيش الشعبي برتبة عريف أول، وعند سماعه لخبر ذهاب الفيلق 49 مشاة من منطقة مغنية إلى مصر للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل حتى تمنى أن يكون اسمه بين المعنيين للجهاد ومحاربة الإسرائيليين وتمنى في نفس الوقت الاستشهاد على أن يعود إلى الجزائر حيا.
وصوله للأراضي المصرية لم يكن عاديا بالنسبة لعمي محمد الذي أكد بأن شعورا غريبا للغاية انتابه رفقة الكثير من الجنود الجزائريين حيث أحسوا بأنهم أكثر حظا من بقية الجنود ما دام أنهم اختيروا للمشاركة نظراً للمهمة النبيلة التي كُلفوا بها .
ويروي بن زيان أن أول شيء عمدوا إليه لحظة وصولهم إلى الأراضي المصرية هو التعود على الأماكن التي استخلفوها عن القوات الجزائرية التي كانت قد سبقت رفقاءه سنة 1967 حيث تم البدء في حفر الخنادق من جديد حتى يتم التعودُ عليها، وبعدها تفقد كل المعدات والأسلحة وبكل روح نفسية عالية إيمانا بالقضية التي قدموا لأجلها وحسبه أن القوات الجزائرية كانت تحظى بشعبية كبيرة وسط بقية القوات العربية على غرار الكويتية والسودانية والمصرية نظرا لقوتها وضراوتها وحبها للاستشهاد والتقدم للأمام بجسارة وعدم العودة إلى الوراء.
ورغم ضراوة المشاهد واشتداد القصف الجوي والأرضي، إلا أن محدثنا بن زيان كشف أنهم كجزائريين تعوَّدوا على المشهد ودوي القنابل التي كانت تلقيها الطائرات الحربية الإسرائيلية، ويعتبر أن المجموعة التي كان ضمنها لم تكن مكلفة بالتقدم للعدو وإنما انتظار الأوامر للبدء في القصف والرد على العدو الإسرائيلي، وكانت هذه الأوامر حسبه تأتيهم من القيادة الجزائرية دون غيرها.
كانت الطائرات الإسرائيلية الحديثة تصوِّر مواقع الجزائريين نهاراً وتغير على المواقع المصوّرة ليلاً، لكن دهاء القادة العسكريين الجزائريين أفشل هذه الغارات؛ حيث كانوا يغيِّرون مواقعنا وخنادقنا في كل مرة.
ويقول العريف بن زيان أن العدو الإسرائيلي فشلت كل محاولاته لقصف مواقع جزائرية كانت على أطراف "البحيرة المرة" حيث عمدت القوات الجزائرية إلى عدَّة حيل لمواجهة القصف الجوي الإسرائيلي، وهي الخطط التي كان يعدّها قادة جزائريون بمكان الحرب كان الهدف منها تجنب الضربات الجوية لتفادي الضحايا كون أن الإسرائيليين كانوا يقومون بعمليات استطلاع يومية عن طريق طائرات متطوِّرة يصعب التصدي لها، تقوم بمسح كلي لمنطقة تواجد القوات العربية لتليها ضرباتٌ جوية في تلك الليلة، وخلالها تُستهدف الأماكن المصوَّرة من قبل الإسرائيليين.
لكن وقتها يقوم الجزائريون حسب العريف بن زيان بتغيير الأماكن ويتخندقون في أماكن أخرى جديدة وهي الخطة التي هزمت الإسرائيليين رغم إمكاناتهم العالية، وكان الجيش الجزائري شبح الإسرائيليين وحسبه أن القوات الجزائرية لم تكن لها إمكاناتٌ كبيرة لمواجهة الطائرات الإسرائيلية المتطورة جدا آنذاك سوى الاعتماد على الحيلة واليقظة.
وكشف بن زيان للشروق بأن العدو الإسرائيلي لما عرف بأن القوات الجزائرية قوية وشرسة في المواجهة راح يستعمل الغارات المتتالية بطرق عشوائية مستهدفاً الكثير من النقاط حيث بدأت القنابل تسقط عليهم مثل حبات البرد لكن يقظة الجزائريين حالت دون وقوع خسائر كبيرة، وهو ما كان يصل إلى مسامع القوات العربية الأخرى التي كانت دائما تفتخر بالجزائريين الذين كانوا يواجهون الإسرائيليين دون خوف خصوصا عند هبوط الطائرات أحيانا، ما زرع الرعب في نفوس الإسرائيليين، وكدليل حسبه على خوفهم هو استعمالهم عددا كبيرا من الطائرات والاعتماد المفرط على القصف الجوي وتحاشى الإسرائيليون مواجهة القوات الجزائرية برا.
يتذكر العريف بن زيان إحدى الذكريات السيئة حين فقد الجيش العربي بعضَ مقاتليه من القوات السودانية عقب قصف طائرات إسرائيلية لجنود سودانيين كانوا يلعبون مباراة في كرة القدم للترويح عن أنفسهم في عز النهار ففوجئوا بغارة إسرائيلية قضت عليهم، وهي الذكرى التي لا يزال يتذكرها محدثنا بحزن ومرارة.
محدثنا يقول بأن تلك الأوقات والمدة التي قضاها بميدان الحرب بمصر التي قاربت السنة كانت ذكرى جيدة لا يزال يتذكرها في كل مرة، وهي التي قضى فيها أحلى أيامه وقال إنه كان يسمح لهم بالتجوُّل مرة في كل شهرين يقومون من خلالها بالتجوال بالقاهرة والجيزة وشرم الشيخ، ويتذكر يوما أنه قام بزيارة للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ رفقة أحد زملائه.
لكن بن زيان يبقى يتأسف للتهميش الذي يعيشه وحالة الغبن التي يعانيها الآن دون أن يلق أدنى دعم خصوصا وانه يعيش بشقة متكونة من غرفة واحدة بحي "الديانسي" بغليزان، وهو الآن يطالب بحقوقه والنظر في حالته.