تؤكد شهادة الجنديين خلادي بومدين وزيان بومدين، مدى بسالة الجيش الجزائري خلال الحرب ضد الكيان الصهيوني سنة 1973، والرعب الذي بات ينتاب أنفس الصهاينة بمجرد وصول القوات الجزائرية إلى ساحة الكفاح، ويسترجع الجنديان أهم المحطات التي مرا بها طيلة المدة التي قاتلا فيها بجبل عبيد من خلال هذا اللقاء الذي جمعنا بهما ببيت الجندي خلادي الواقع بسيدي بلعباس.

..  "فرحتنا كانت لا توصف عندما علمنا أننا سنقاتل الصهاينة وجها لوجه"

لقاؤنا بدأه زيان بومدين بسرد أهم المحطات التي لا تزال ذاكرته تحتفظ بها، وبدأها بالقول أن عمره كان لا يتجاوز 21 سنة حين كان جنديا بصفوف القوات المضادة للطيران، بالجيش الوطني الشعبي بتلاغمة، وفي أواخر سنة 1972 شارك في المناورة الكبيرة التي قامت بها مختلف وحدات الجيش بجبال الأوراس، واختتمت بإلقاء الرئيس الراحل هواري بومدين لكلمة حاول من خلالها إخفاء رضاه عن القوة التي أظهرتها مختلف الوحدات، حين قال "نأمل أن تكون مناورة السنة المقبلة أحسن من السنة الحالية" يقول زيان الذي وجد أن كلمة الرئيس كان الغرض منها زرع تحميس الجيش أكثر ليكون أكثر قوة، وبتاريخ 6 أكتوبر 1973 أعلنت حالة طوارئ بالثكنة التي كنا بها، يقاطعه رفيقه خلادي البالغ من العمر آنذاك 21 سنة أيضا والذي كان معه بنفس الثكنة قائلا: وفي اليوم الموالي حضر العقيد عبد الغني إلى المطار العسكري لتلاغمة وألقى علينا كلمة أراد من خلالها أن يدعونا للسير بنفس نهج الثوار خلال حرب التحرير، وأعلمنا أننا سنلتحق بساحة القتال لمساندة إخواننا المصريين في حربهم مع الكيان الصهيوني، ثم يؤخذ زيان الكلمة ليصف الفرحة التي انتابته وجميع رفاقه حين علموا أن الفرصة أتيحت لهم ليواجهوا الصهاينة وجها لوجه، و"ما جعلنا نستعجل اللحاق بساحة الكفاح هو انتماء الكثير منا لعائلات ثورية" يقول خلادي.

استقبال الأبطال في القاهرة

ويواصل الرفيقان سرد ذكرياتهما حيث يقول خلادي أن الأسلحة الثقيلة والدبابات شحنت على متن السفن عبر ميناء عنابة، وتوجهت مباشرة نحو ميناء الإسكندرية، بينما يضيف بدأنا رحلتنا برا عبر تونس، واعتمدنا السير ليلا لمنع تتبع خطواتنا من طرف العدو، إلى أن وصلنا للقاهرة في حدود الساعة التاسعة والنصف ليلا، وهناك استقبلنا من طرف المصريين كالثوار الذين يعودون غانمين من الحرب، ثم واصلنا سيرنا إلى آخر محطاتنا التي كانت مطار القاهرة العسكري، وفي اليوم الموالي حضر إلينا قائد أركان الحرب محمد الطويل ليبلغنا أن الرئيس الراحل هواري بومدين أمره بأن نكون ضمن الصف الأول في ساحة القتال، وتوجهنا بعدها مباشرة للتموقع بجبل عبيد على بعد كيلومترات قليلة عن مواقع الصهاينة، وتأهبنا مباشرة لبداية القصف.

والدة خلادي ابتلعت أسنانها

بعد مرور 10 أيام من تموقع القوات بجبل عبيد، يقول بن زيان أنه ذهب في دورية ليلية رفقة بعض زملائهم، وفي غفلة منهم باغتهم العدو بطلقات من الرصاص، ما أسفر عن إصابته برصاصتين على مستوى الرجل وأصيب زميلٌ له من مدينة ذراع الميزان على مستوى الكتف، ما أجبره على المكوث لأيام بالمستشفى العسكري بالقاهرة ثم نقل بعدها إلى أرض الوطن، تاركا رفيقه خلادي رفقة زملائه بساحة القتال لمدة 19 شهرا، هذا الأخير الذي لا يزال يحتفظ بذكرى ابتلاع والدته لأسنانها مع الأكل، عندما وصلتها رسالته التي أنبأها فيها بذهابها للكفاح بفلسطين، لكن سرعان ما اقتنعت أن ابنها يحذو حذو أخواله السبعة المجاهدين.

معلومات دقيقة من داخل بيت العدو

بعد مرور شهرين على تواجدنا بجبل عبيد، يقول خلادي، بلغتنا معلومات حول تأهب طائرة إسرائيلية للتحليق فوقنا، وتلقينا أوامر بالبدء في إطلاق النار لأجل منع الطائرة من قصفنا، وأجبرنا قائدها على تحويل مساره نحو منصة الصواريخ المضادة للطائرات التي تمكنت من اقتناصها وإسقاطها، يضيف خلادي الذي صرح أن في اليوم الموالي تلقينا أوامر من المحافظة السياسية التي كانت لديها قدرة على الحصول على معلومات دقيقة من داخل بيت العدو، بمبارحة المكان الذي كنا متوقعين به، بعدما بلغتها معلومات حول إمكانية تعرضنا للقصف كردة فعل من طرف الصهاينة، وبعد أن قمنا بمغادرة المكان بحوالي 2 كيلومتر، يقول خلادي، كان الأمر كذلك.

الصهاينة كانوا يُكبَّلون بمقود الدبابات

يواصل خلادي شهادته ليؤكد أن العدو الحقيقي للصهاينة آنذاك كان الجيش الجزائري الذي أسكن الرعب في أنفسهم بمجرد لحاقه بساحة القتال، حين أكد أن اليهود كانوا يغادرون مواقعهم التي لم تكن تبعد على مواقع الجيش الجزائري إلا بحوالي الكيلومتر الواحد كلما حل الظلام، ويموِّهون بأنهم متواجدون هناك، يقاطعه بن زيان ليؤكد أن القادة الصهاينة لجؤوا إلى حد تكبيل قائد الدبابة بمقودها حتى لا يتركها ويفر من شدة الخوف، بعدما كانت قناتهم الإذاعية الناطقة بالعربية تنقل بشكل يومي إنجازات الجيش الجزائري، وحاولوا مرارا، يؤكد خلادي، استمالتنا وكسب عطفنا حين يخاطبوننا قائلين أن عدونا الحقيقي هو فرنسا ولا يوجد أي إشكال لهم معنا.

هدفنا كان تحرير فلسطين

هدف الجيش الجزائري كان تحرير فلسطين والصلاة بمسجد القدس الشريف، هذا ما أكده خلادي وبن زيان اللذان قالا إن ذلك ما جعل كل فرد من أفراد الجيش الجزائري المشارك في تلك الحرب عازما على تحقيقه، إلا أن الحرب لم تتواصل وفضل أنور السادات توقيفها والشروع في مفاوضات مع الصهاينة.

وعن ظروف الحرب يقول خلادي: كافحنا كثيراً، وكنا مضطرين إلى النوم بألبستنا الحربية وأحذيتنا دون نزعها لمدة قاربت الأربعة أشهر، وأكل الكثير منا الأرز ممزوجاً بالرمال والبعض الآخر كان يقاتل دون أكل ولا شراب أحيانا.

مشاركة خلادي وبن زيان جعلتهما يحتفظان بالكثير من الذكريات الجميلة منها والسيئة، فالذكرى الجميلة التي لا تزال راسخة في ذاكرة بن زيان هي اللغة التي خاطبهم بها الرئيس الراحل هواري بومدين والتي زرعت فيهم قوة إضافية حين قال "أنتم اليوم ذاهبون من أجل النصر أو الاستشهاد"، أما زميله خلادي فلم تمحُ الأيام رغم طولها حادثة استشهاد زميله تيزي مختار الذي كان عمره في ذلك الوقت لا يتجاوز 18 سنة، يقول خلادي أنه منحت له إجازة إلى أرض الوطن، عندها تقدم منه الشهيد تيزي طالبا منه إبلاغ سلامه لأهله بسيدي بلعباس، لكن يقول خلادي نبأ استشهاده وصل إلى أهله قبل سلامه، فبعد أن قصدت مسكنهم العائلي بحي "عبُّو" وجدت مراسيم جنازته مقامة أمام مسكنهم وأصبت بصدمة كبيرة، كتلك التي صدمت بها عندما استشهد أحد أعز أصدقائي بوغالم عبد القادر من مدينة غليزان، يقول خلادي.

وفي ختام إدلائهما بشهادتهما، ائتمننا خلادي وبن زيان بأن نبلِّغ معاناتهما للسلطات العليا بالبلاد، بعدما تدهورت حالتهما الاجتماعية رغم أنهما من أبناء هذا الوطن الذين رفعوا رايته عاليا، فهما لا يستفيدان من أية منحة تمكنهما من مواجهة صعاب المعيشة، كما لا يتوفران على الضمان الاجتماعي، داعين كل المسؤولين من أجل النظر في وضعيتهم وإيجاد حلول لها.