سجّل شهادته: طاهر حليسي (تحقيقات جريدة الشروق اليومي الجزائرية )2013
2013/09/28
جزائريون يخرقون وقف إطلاق النار لرفضهم التفرج على خطوط العدو الإسرائيلي
حينما تفشل
عملياتهم العسكرية تبدأ الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية في بثّ
برامجها حيث خصصت للجزائريين عميلاً يسمى "عمي حمدان" يحسن العربية
لمخاطبتنا بقوله "أيها الجزائريون لقد خالطتم الفرنسيين ولديكم عادات حسنة
في الأكل والملبس، عودوا إلى بلدكم واتركوا المصريين فإنهم سينقلبون عليكم"
وهذا في محاولة لإثارة الفرقة والشقاق داخل الصف العربي الواحد.
عبد
القادر بودونت رقيب سابق في سلاح المدرعات للواء الثامن ولد العام 1954
ببلدية عين زعطوط المشهورة باسم أيث فرح في اقصى جنوب الأوراس، وانخرط شابا
في مدرسة أشبال الثورة ببسكرة في الفترة ما بين سنوات 1963 و1970، وقد تم
احتجازه رفقة 80 عسكريا خلال قضية العقيد شعباني مدة يومين كاملين داخل
دهليز على سبيل الاحتراز قبل أن يتم ترحيله لإكمال تكوينه بقالمة، وحين
كانت القيادة العسكرية تنفذ تكوين اللواء الثامن للمدرعات بالتلاغمة تقرر
إرساله للجبهة المصرية في 14 أكتوبر 1973 لتأمين خط الجبهة بعد معركة
العبور الناجحة التي قادها الفريق سعد الدين الشاذلي.
يستذكر الرقيب السابق بودونت أجواء رهيبة ستبقى
عالقة في ذهنه مدى الحياة وهو يرى رفقة الجنود الجزائريين الموفدين للجبهة
المصرية الآلاف من أبناء الشعبين التونسي والليبي يصطفون عبر الشوارع
والطرقات لتحيتهم وهم يعبرون في قافلة اللواء الثامن المدرع برا باتجاه
مصر، حيث يقول أن المشهد أثر كثيرا في معنويات ما يقارب 2000 جندي جزائري
وشجعهم على بذل النفس والنفيس والتضحية بأرواحهم في المعركة الفاصلة مع
الجيش الإسرائيلي، بل إن بعضهم ذرف دموعا وهو يسمع زغاريد النسوة والعجائز
والشابات اللواتي تقاطرن من القرى والأرياف والمدن التي كانت تخترقها عربات
الجيش وشاحناتٌ ضخمة حملت الدبابات إلى غاية الوصول إلى القاهرة تحت
الظلام الدامس، حيث قررت المخابرات الحربية المصرية قطع الكهرباء عن
القاهرة تأميناً لعبور القوة العسكرية الجزائرية وتفاديا لرصدها من قبل
عيون الجيش الاسرائيلي وشبكات جوسسته وبطيران الاستطلاع أو غيره ومنعاً
لقصفها وهي في طريقها إلى أرض المعركة.
عميلٌ كان يستميلنا بأغاني العنقى
يؤكد الرقيب عبد القادر بودونت أن جميع الجنود الجزائريين
المشكلين للواء الثامن للمدرعات شعروا بخيبة كبيرة وحالة غضب عارم بعد
وصولهم إثر انتهاء حرب أكتوبر 1973، فقد كانت تحدوهم إرادة كبيرة للقتال ضد
جيش العدو الإسرائيلي، وكان بعضهم يردد في حسرة "جئنا لنحارب لا للانتظار،
نتمنى أن تعلن القيادة حرباً أخرى ضد الجبهة الإسرائيلية" غير أن المهمة
التي أوكلت لكتائب اللواء الثامن لم تكن هيِّنة بعد توزيعهم على طول الجبهة
التي شكلت من الجيش الثالث المصري بقيادة اللواء أحمد بدوي في حين كان عبد
الملك قنايزية قائدا للقوة الجزائرية، فكُلف هؤلاء بحراسة الخطوط المصرية
وظلوا مرابطين على الثغور مدة نصف عام ثم أكملت بسنة ونصف سنة أخرى في عمل
عسكري لا يقل أهمية عن الهجوم المباشر على مواقع العدو.
ويؤكد بودونت أنه وحينما كان في المنطقة العسكرية المسماة جبل
عبيد على يسار قناة السويس شاهد بأم عينيه عربة جيب إسرائيلية تتطاير في
الهواء بعدما استهدفتها القواتُ الجزائرية بسلاح الدوشكا الذي كان يلجأ
إليه لقرب الخطوط من بعضها حيث لا تتعدى 800 متر في عدة نقاط، فكانت
الاشتباكات تندلع من فترة إلى أخرى بالمدفعية الخلفية خاصة أثناء الليل
وعادة ما تبدأ بإطلاق الجيش الإسرائيلي للقنابل المضيئة والكاشفة وكان يرد
عليها قصد اطفائها ولمنع تسلل الجنود الإسرائيليين خلف خطوطنا.
وحينما تفشل عملياتهم العسكرية تبدأ الإذاعة الإسرائيلية الناطقة
بالعربية في بثّ برامجها حيث خصصت للجزائريين عميلاً يسمى "عمي حمدان" يحسن
العربية لمخاطبتنا بقوله "أيها الجزائريون لقد خالطتم الفرنسيين ولديكم
عادات حسنة في الأكل والملبس، عودوا إلى بلدكم واتركوا المصريين فإنهم
سينقلبون عليكم" وهذا في محاولة لإثارة الفرقة والشقاق داخل الصف العربي
الواحد، وطبعا كان ذلك يثير الضحك والتنكيت، والطريف والظريف على طريقة
"عمي حمدان" الذي كان أيضا يبث أغاني للحاج محمد العنقى لإثارة حنين الجنود
إلى بلدهم وأهاليهم، ودفعهم إلى التخلي عن الحرب.
فيلق جزائري يخرق وقف إطلاق النار
كان اللواء الثامن للمدرعات موزعا على طول الجبهة وكان متكونا من
ثلاثة فيالق مدرعة عددها زهاء 36 دبابة بالإضافة لفيلق مدفعية وفيلق مضاد
للطيران وفيالق اللوجستيك والصيانة، ورغم الظروف القاسية جدا فقد كان
الجنود يؤدون وظائفهم العسكرية بشجاعة حتى في حال استهداف خطوط التموين
مثلما وقع مرة عندما دمر اسرائيليون عربة التموين ما اضطرهم لتناول الخبز
والشاي أو ما يعرف بالخبز البلدي بلهجة المصريين، وكانوا يلجؤون إلى
الوجبات الباردة التي وضعتها القيادة الجزائرية تحت تصرفهم وقت الحاجة.
وبرغم وقف إطلاق النار، فإن اشتباكات عنيفة كانت تندلع على حين
غرة حيث يؤكد المتحدث أن الفيلق الجزائري التاسع للمشاة المحمولة الذي كان
يقوده آنذاك النقيب مازري بلقاسم - الجنرال المتقاعد حاليا ورئيس المنظمة
الوطنية لقدماء محاربي الشرق الأوسط في العهدة الماضية - كان بحق فيلقا
مصرًّا على القتال بدافع روح وطنية عالية وبرغبة صادقة لدى عساكره الذين
كانوا يدكون مواقع الجيش الإسرائيلي دكا ليلا ونهارا رغم قرار وقف إطلاق
النار الأممي، ولسان حالهم يقول "جئنا لمحاربة العدو الصهيوني وليس للتفرج
في خطوطه الدفاعية".
السادات أحزن الجزائريين
يقول الرقيب السابق أن جميع الوحدات القتالية الجزائرية كانت
تتشوق للقاء العدو الإسرائيلي خاصة بعدما جاءتهم أنباء عن التحضير لضربة
ثانية قاضية لمسح خطوط العدو يشرف عليها الفريق سعد الدين الشاذلي بطل حرب
أكتوبر الذي حقق معجزة عبور قناة السويس وحطّم خط بارليف الصهيوني الحصين،
فبدأ الجميع في الاستعداد لليوم المشهود وحينما كانت الضربة قاب قوسين أو
أدنى من التحقق تناهى إلى مسامعهم خبر خلافات بين السياسي ممثلا في الرئيس
أنور السادات والعسكري المحنك سعد الدين الشاذلي ربما بسبب قضية ثغرة
الدفرسوار التي أحدثها شارون وحاصر بها الجيش المصري الثالث، فتقرر إلغاء
العملية العسكرية برمتها تمهيدا لاتفاقيات محتملة اتضح في السنوات التالية
أنها كامب ديفيد. وقد نزل خبر الإلغاء كالصاعقة على الجنود الجزائريين
الذين تملكهم احباطٌ كبير ولم تستتبّ أوضاعهم النفسية سوى بعد أسابيع وشهور
ثم عاودوا القيام بمهامهم الموكلة إليهم في انضباط كبير.
ويؤكد المتحدث أن الجزائريين كانوا يحظون بتقدير كبير من طرف
اخوانهم المصريين سواء كانوا عسكريين أو مواطنين بسبب مآثر ثورة أول نوفمبر
1954 التي سبقت مآثرها هناك كخلفاء في الجيش الشعبي الوطني لأسلافهم في
جيش التحرير، حيث كانوا يتسامرون معهم في خط الجبهة مع توصية شددت عليها
القيادة الجزائرية بعدم الكشف عن الأسرار العسكرية للأشقاء المصريين تحت أي
ظرف أو مسوغ، أو في مقهى زينة الذي يجتمعون به وسط القاهرة خلال الأجازات
العسكرية بحثاً عن القهوة المضغوطة حيث كانت هذه المقهى الوحيدة التي
تقدمها للزبائن في كامل العاصمة المصرية.
لم يعد الجزائريون من الجبهة المصرية إلى بلادهم سوى في عام 1975
بسبب تطورات الصحراء الغربية وقضية أمغالا ومن حرب إلى أخرى يستحضر المتحدث
تلك الذكريات بفخر ثم بحسرة بسبب التهميش الذي طال هذه الفئة المحرومة من
المنح أسوة بباقي العسكريين باعتبارهم جنوداً كانوا في خدمة الدولة
الجزائرية بالجبهة المصرية خاصة وأن فيهم شهداء ومعطوبين ومرضى.