في هذه الحلقة يحدثنا محمد الدراجي بقرمي، من بسكرة، عن مشاركته في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، ليكشف للشروق اليومي، عن معاناة تكبدها الجيش الجزائري، وسط ظروف قاسية، ويتحدث عن فطنة مكنت من توقيف مصريين اثنين، حاولا تسريب معلومات لقوات العدو حول مواقع انتشار الجيش الجزائري.
محدثنا تخرج من الجامعة الجزائرية عام 1971، ليلتحق بالكلية العسكرية بشرشال، لأداء الخدمة الوطنية. تكوَّن كقائد لفصيلة الدبابات بباتنة، قبل أن ينظم إلى لواء المدرعات بتلاغمة عام 1973.
كيف كانت الرحلة الى مصر؟
علمت مسبقا من القيادة في باتنة أنني وزملائي سنتنقل برا إلى مصر لاستخلاف زملائنا الذين شاركوا من قبل في حرب الاستنزاف ضد اليهود.
تجمعنا في تلاغمة في يوم 10 أكتوبر، أعددنا العدة والعتاد وفي الثاني عشر من الشهر ذاته انطلقنا في موكب حربي تميزه حاملات المدرعات المدنية والعسكرية، وقد استغرقت الرحلة 12 يوما توقفنا خلالها 6 مرات واحدة في تونس و5 مرات في ليبيا، وفي الرابع والعشرين من أكتوبر دخلنا مصر عبر بوابة السلوم ذات المنعرجات الخطيرة والتي تسببت في حادث انقلاب احدى شاحناتنا، توقفنا في منطقة جفرة.
أعددنا أنفسنا للتنقل إلى خط النار وسرنا ليلا وما كاد الليل ينجلي حتى وصلنا إلى منطقة تُسمى أم كتيب وهناك استخلفنا القوات المصرية، وقتها شاهدت صليبا يتدلى من رقبة ضابط مصري، فأحسست بالشك يعتريني، أما الضابط فراح يطمئنني قائلا "مفيش حاجة أفندم".
هل صدق حدسُك لاحقا بعدما رأيت الصليب؟
نعم.. بمرور الايام تأكد لي أن العدو الإسرائيلي يعلم بجميع تنقلاتنا، كنا نرى إشارات ضوئية ملوَّنة تعلو في الفضاء، بألوان مختلفة: الأحمر والأبيض والأخضر، وفي مرات تردفها طلقاتٌ أخرى، الشيء ذاته تكرر في منطقة قمة فايد وعرفنا لاحقا أن الإشارات الملوَّنة تعني موقع إقامتنا والطلقات التي تتلوها تعني تغييرنا الموقع. هذا الأمر زادنا يقظة، علما بأن القائد عبد الغني رحمه الله أوصانا بأخذ الحيطة من الوقوع بين أيدي العدو وأمرنا بالاحتفاظ بقنبلة نستعملها عند الضرورة القصوى بتفجيرها داخل الفم بدل الوقوع في الأسر. ولحسن الحظ لا أحد منا وقع فيه، وفي المقابل أوقفنا مصريين اثنين متلبسين بتهمة الجوسسة لإسرائيل.
هل من توضيحات أكثر؟
نعم، كنا في موقعنا في فترة راحة مساء وإذا بشخص بزي مدني يرتدي بدلة أنيقة ويحمل في يده حقيبة دبلوماسية يمر قريبا منا، أمرناه بالتوقف فأظهر نوعا من اللامبالاة فأوقفناه بالقوة وراح يحاول ابعادنا مستعملا يديه، وفجأة وقعت الحقيبة من يده وتبعثر ما فيها من ورق وتبين بعد تفحصها أنها خرائط لمواقع الجيش الجزائري. أشبعناه ضربا ثم سلمناه إلى قيادتنا التي سلمته بدورها للقيادة المصرية.
أما الحادثة الثانية فتتعلق بمصري تظاهر بالجنون كان يرتدي لباسا رثا متسخا، على رأسه بطانية وسخة. في البداية اعتقدنا انه فعلا مختل عقلياً فاقترب منه بعض من زملائنا لإثارته وممازحته لتقع البطانية على الارض ويظهر وجهها الداخلي كاشفا عن حقيقة لم نتوقعها.
ماهي؟
لما وقعت البطانية وانكشف وجهُها الباطني شاهدنا رملا ملتصقا بها في شكل رسومات. بعد تفحصها تبين انها خرائط لمواقعنا مرسومة بالغراء والرمل. ذهلنا للمشهد وتأكدنا انه جاسوس عميل لإسرائيل فسلمناه لقيادتنا لتسلمه بدورها للقيادة المصرية.
هل من حادثة أخرى لازلت تتذكرها؟
هي حوادث كثيرة، من بينها تلك التي عشتها شخصياً ذات أمسية كان الوقت الرابعة عصرا حينما هبّت زوبعة قوية فهرعنا لتغطية الدبابة وتأمين العتاد ثم انصرفت أنا إلى مخبئي بينما اختبأ من معي في الدبابة.
حل الليل فاستسلمت للنوم افقت وإذا الظلام لا يزال يخيم على "الكازمة" رقدت واستيقظت ثانية إلى أن مللت النوم، لكن المكان بقي مظلما، وفي تلك الأثناء سمعت صوت الرفش أعلى سطح المخبأ وعبر منفذ صغير القيتُ نظرة لأرى حذاء زميلي الذي كان يقوم بنزع الرمال من على سطح الكازمة وجوانبها. دلني زميلي على باب المخبأ فخرجت لأتأكد انني كنت مغمورا بالرمل ووجدتهم حفروا أكثر من حفرة بحثاً عني وكانوا سيغادرون الموقع بدوني بعد أن يئسوا من العثور علي.
طبعا غيّرتم المكان؟
نعم.. توجهنا نحو قمة فايد وكنا اقرب بكثير من الاسرائيليين، كان الفاصل بيننا مجرى وادي على بعد 800 متر بيننا وبينهم، غير أن الأمور كانت عادية جدا عقب الاعلان عن توقيف القتال.
هل كان الإعلان محترما من كلا الطرفين؟
كان كل شيء عادياً في الأيام الأولى التي تلت الاعلان عن توقيف الحرب، كانت المؤونة تصلنا بانتظام قبل أن يتغير الحال بسبب استخلاف العناصر الإسرائيلية القريبة منَّا بأخرى ـ حسب اعتقادي ـ ففي أحد الأيام تعرضت القافلة التي تموِّننا بالغذاء وتزودنا بالماء إلى طلقات من طرف العدو، ومنذ ذلك اليوم انقطع عنا التموين، وبمرور الأيام نفد مخزوننا بعدما استهلكنا كل شيء بما في ذلك المؤونة القتالية.
نفد الماء ولم نجد ما نشرب فاضطررنا الى تصفية ماء محرك الدبابة لنتناوله، وكنا كلما خرجنا من مخبئنا تعرضنا الى طلقات دون الرد عليها في المرة الأولى، احتراما لإعلان توقيف الحرب.
وماذا فعلت؟
اتصلت بقائد الكتيبة فأمرني بعدم الرد والتزام الصبر الى اشعار آخر. الأيام تمر وحالنا يزداد تأزما إلى درجة أوشكنا على خرق اعلان توقيف القتال لكننا التزمنا بالأوامر حتى نفد صبرُنا.
نفد صبركم؟ هل خرقتم الاتفاق؟
نعم، لكن بذكاء؛ فبعد التأكد من وجود قذيفة خارقة حارقة خارج الجرد، اتفقنا على خطة يشترك فيها الجميع وهي إطلاق القذيفة وإعادة الأمور إلى حالها فورا وهو ما حدث، حيث كانت مهمتي إعادة تشحيم ماسورة المدفع فور الإطلاق، وكانت لزملائي مهام أخرى تنتهي نتائجها عند إزالة كل أثر يدل على أن الطلقة مصدرها الدبابة المحاصرة.
هل نجحت الخطة؟
نعم فبعد الطلقة رتبنا كل شيء ودخلنا المخبأ لنلعب الورق، وبعد مضي وقت قصير سمعنا أزيز مركبات قادمة نحو موقعنا وما إن حلت حتى سمعت صوت قائد الكتيبة محمد الصالح طقيدة يناديني وراح يلومني على ما قمنا به في حضور جمع من الضباط بينهم مصريون.
ماذا كان ردك؟
طبعا نفيت كل شيء وقلت له "بإمكانك التأكد من الذخيرة"، أحد المرافقين كان برتبة رقيب أول، قصد الدبابة وأدخل يده في الماسورة ليخرجها ملطخة بشحوم وضعتها أنا بعد الطلقة، ومنذ ذلك اليوم شعرنا بالأمان وقضينا باقي الأيام في أمن وسلام. كانت المؤونة تصلنا بانتظام وكذلك التزود بالماء، ولكم أن تتصوروا حالنا بعد شهر بلا ماء.