وجدت نفسي مضطرا لأن أقطع الحديث
لأكثر من مرة، حتى أمنح فرصة لعمي العربي كي يسترجع أنفاسه، فحالته الصحية
لم تكن تسمح إطلاقا بإجراء هذا اللقاء الصحفي مع أحد قدماء محاربي الشرق
الأوسط، ورغم ذلك لم يتركنا ننصرف دون أن يتحدث ولو قليلا على مشاركته مع
"أعز الرجال" كما ردد ذلك العديد من المرات وهو يعود بنا إلى تلك الحقبة
الزمنية التي امتدت من 1967 وإلى غاية 1975 وتحديدا فترة مشاركته من سنة
1973 إلى 1975 في حرب أكتوبر ضد الصهاينة.
عمي
العربي الذي اضطر للخروج من منزله بمدينة صبرة الحدودية بتلمسان والبحث
عنا في شوارعها بعدما لم نتمكن من العثور على منزله، إلى أن لمحناه من بعيد
وهو يحمل هاتفه النقال يمشي بخطى متعثرة، كان يبدو على ملامحه التعب وعدم
القدرة ليس فقط على المشي وإنما حتى على الكلام، وهو يحاول بالكاد أن
يستجمع كلماته في حديث متقطع زاده ارتعاش يديه بعد إصابته بمرض "باركيسيون"
أو ما يعرف شعبيا بـ"بوهزاز"، إلا أن تلك الميداليات التي كان يضعها على
قميصه قالت كل شيء، لقد كانت تلك الميداليات ليست فقط شهادة من الدولة
الجزائرية على مشاركته في تلك الحرب وإنما أيضا هوية عسكرية تثبت أن الرجل
الذي سنجلس إليه يحمل في ذاكرته تاريخا لم تستطع رمال سيناء وصحراء مصر أن
تدفنه في أراضيها.
اسمه
العربي سعادي من مواليد 1945، منذ البداية يقول لك "أنا لست ثوريا" ولم
يحظَ بشرف المشاركة في الثورة الجزائرية ولم يلتحق بجيش التحرير، إلا أنه
يقول لك بكثير من الفخر "أنا جندي التحقت بالجيش الشعبي الجزائري سليل جيش
جبهة التحرير الوطني في أواسط الستينيات من القرن الماضي" ويواصل مستدركا
ما سقط سهوا من كلامه "وقد كتب لي الله العلي القدير أن أكون ضمن محاربي
الشرق الأوسط في حرب أكتوبر، التي تمنيت أن أستشهد فيها وأنضم إلى قوافل
الشهداء الأبرار وأحجز مكاناً لي مثلهم في جنة الفردوس، إلا أن القضاء
والقدر أراد لي البقاء على قيد الحياة...."، وما يكاد ينهي هذه الجملة حتى
يشير إليك بأصبعه إلى ميدالية "سيناء"، وهي ميدالية تقديرية منحتها له
السلطات العليا للبلاد بعدما انفجرت أمامه قنبلة أو كما قال "قلوش"، قبل أن
يأخذ في عرض جميع الميداليات "أشكر الدولة الجزائرية على أنها منحتني هذه الأوسمة منها التقديرية والشرفية، وهذه ميدالية تدعى سيناء منحت للعديد من رفاقي..".
كان
عمي العربي يفاجئني بإجابات تختلف عن الأسئلة التي كنت أطرحها عليه فلم
أتمكن من توجيه الحديث إلى موضوع معين، مستسلما لـ"مفاجآته" وكأنك أمام
جندي محنك يعرف اللحظة التي يفاجئك فيها بعبارات كانت تحمل أكثر من حقيقة
أو أكثر من عبرة كأن يخاطبك قائلا "لو كان المصريون يعرفون التاريخ جيدا
لما شتموا شهداء الجزائر، ولما اعتدوا على لاعبينا، ولما شمتوا الجزائر.."،
ثم يواصل كلامه للمصريين وللجزائريين ولكل العرب "في الجزائر جنودٌ لا
تزال في بطونهم رمال سيناء.." وعندما أسأله كيف؟ يجيب "هنالك في الجزائر
العاصمة جنود شاركوا في حرب أكتوبر لا تزال في كروشهم رمال الصحراء
المصرية.. لقد علقوا في صحراء سيناء وامتلأت بطونهم بالرمال..."، ثم يطأطئ
رأسه متحسرا "ماذا تنتظر الدولة الجزائرية حتى تروي تاريخ محاربي الشرق
الأوسط لأطفالنا في المدارس؟.."، ثم يطلب مني أن أكتب ذلك وأنشره بأمانة
"يجب أن يعرف الشعب الجزائري والشعوب العربية وشعوب العالم ما قدمه الجيش
الجزائري في سبيل فلسطين والأمة العربية والوحدة العربية.. عليهم أن يعرفوا
الحقيقة..."، أقاطع الحديث سائلا "عمي العربي مادمت تحدث عن الحقيقة نريد
منك أن نسمعها.. حدثني عن مشاركتك..". عمي العربي يعدل في جلسته ثم يقول
"في 16 رمضان الموافق لـ6 أكتوبر من سنة 1973، طُلب منا أن نجهِّز أنفسنا
للذهاب إلى مصر في مهمة عسكرية والمشاركة ضد الهجوم الإسرائيلي على الأراضي
المصرية وهضبة الجولان السورية، كنا حينها في منطقة تلاغمة بقسنطينة قبل
أن تتحول إلى ولاية ميلة، توجهنا برّا إلى تونس ومن ثم إلى ليبيا بمدينة
الدار البيضاء الليبية، حيث اُستقبلنا أحسن استقبال من قبل الليبيين ويجب
أن يعلم الجميع أن اللبيبين - ربي يبارك فيهم - لم يبخلوا علينا بشيء وهذه
الحقيقة يجب قولها حتى وإن كانت أوضاع ليبيا اليوم ليست على ما يرام، لكن
التاريخ لا يرحم.
ويضيف
عمي علي: بعد ذلك توجهنا وكان تعدادنا كبيراً يتجاوز 2500 عسكري من ضباط
وضباط صف وجنود مجهزين بعتادنا الحربي إلى أن وصلنا إلى الحدود الليبية -
المصرية وتحديدا بمنطقة مرسى مطروح ومن هنالك توجهنا إلى مناطق الاشتباكات
بعدما التقينا الجيش المصري وقيادات من الجيش المصري، ذهبت برفقة عدد كبير
من الجنود الجزائريين مع أفراد من الجيش الثالث المصري، حيث تم وضعنا في
المنطقة الحربية التي كان يفصلها على أراضي سيناء نهر، كنا مرابطين في
الجهة الغربية لقناة السويس وتحديدا بقرية تسمى فايت، مهمتنا كانت حماية
الجيوش العربية المشتركة من الجهة الخلفية، أي كنا وراء المحاربين نحمي
ظهرهم ونقوم بين الحين والآخر بعمليات مباغتة، كنت حينها برتبة عريف أول
مكلف بتسجيل الأسلحة، ومادمت قد ذكرت الأسلحة فيجب أن يعلم الجميع أن
القيادات الجزائرية اقتنت أسلحة جديدة وصالحة ومن الطراز العالي عكس بعض
الدول التي كانت مساهمتها جد متواضعة مثل الجيش السوداني، لم نكن نتصور أن
نجد بالمنطقة التي ذهبنا إليها بعض المدافع للجيش السوداني جد متواضعة ولا
تتعدى 4 مدافع، ومنذ تواجدنا بمنطقة فايت لم تتعرَّض هذه القرية إلى أي
هجوم وتعتبر من بين القرى التي عانت كثيرا منذ سنة 1967 من الهجمات الإسرائيلية التي أرادت تدميرها نهائيا وإبادة سكانها.
ويواصل
عمي علي قائلاً: كنتُ حينها قد بلغت الـ 32 من العمر، عندما توجهت إلى مصر
من أجل محاربة إسرائيل والوقوف في وجه شارون والجنرال الإسرائيلي موشي
دايان ذي العين الواحدة، شارون أعدّ العدة وكان واثقا من نصره فقد جهز لنا 6
فرق عسكرية، إلا أن بسالة الجيوش العربية وأوَّلها الجيش المصري الذي أبلى
بلاءً حسنا خاصة الجيش الثالث الميداني وهي حقيقة يجب قولها بعبارة أخرى
"حمرونا وجوهنا"، لكن ذلك لم يأت هكذا فدور الجيش الجزائري والمخابرات
الجزائرية كان له تأثير مباشر في تغيير موازين القوة، خاصة المخابرات
الجزائرية التي لعبت دورا كبيرا في التصدي للهجومات الإسرائيلية، حتى أن
المخابرات المصرية لم تكن تتحرك إلا بناءً على ما كان يصلها من معلومات
دقيقة من جانب المخابرات الجزائرية، وكنا نحن كجنود نسمع ذلك ونعتز أيما
اعتزاز بمخابراتنا الجزائرية التي تمكنت من أن تمرغ أنف الإسرائيليين.
هواري
بومدين رحمه الله الذي ودّعنا ونحن نغادر الجزائر فجر 16 رمضان قائلا "إما
تعودوا أبطالا أو تعودوا شهداء.. يا تجو تزغرتوا.. يا نزغرتوا عليكم..".
أما
عن تواجدنا بغرب قناة السويس فقد كان له مفعول إيجابي إذ أن معظم الضربات
الموجعة التي تلقتها إسرائيل كانت من هذه المنطقة التي كان يتواجد بها
الجيش الجزائري، خاصة وأن الجنود الجزائريين كانوا مستهدَفين من قبل الآلة
الحربية لشارون وموشي دايان بعدما اعتقدوا أن الجيش الجزائري يشكل نقطة ضعف
في تشكيلة الجيوش العربية الموحَّدة، إلا أن الإسرائيليين لم يكونوا على
علم بأن الجيش الجزائري يومها كان يقوده رئيس ومجاهد محنك يسمى هواري
بومدين رحمه الله الذي ودّعنا ونحن نغادر الجزائر فجر يوم 16 رمضان قائلا
"إما تعودوا أبطالا أو تعودوا شهداء .. يا تجو تزغرتوا .. يا نزغرتوا
عليكم.."، لقد كنا موقنين إما بالنصر أو الشهادة، ولا تتصوَّر كم كنا
نتحسَّر عندما نرى ونشاهد - أقول هذا الكلام على من كان مكلفا مثلي بمهام
تنظيمية داخل الجيش - ضبَّاطا مصريين وجزائريين يركبون الشاحنات في طريقهم
إلى سيناء كنا نتمنى أن نكون في مكانهم حتى نحجز مكاننا في الجنة... إلى أن
تم تغيير مهمتي وأصبحت ضمن الجنود المكلفين بحماية ظهور محاربي الصحراء،
لم تُكتب لي الشهادة ولكن حملت بين يدي جثث رفاق الكفاح من مصريين، ووقفت
على عزيمة أعز رجال الجزائر الذي وصل بهم الحد إلى درجة القيام بعمليات
استشهادية عندما كان يشتد الحصار على الجيش المصري في ساحة المعارك، كلنا
كنا نفكر بطريقة جماعية وانفرادية في القيام بعملية استشهادية كلما اشتد
بنا الخناق، البعض يقول إننا فشلنا.. لا أبدا لم نفشل بل وصلنا إلى الأراضي
بسيناء لكن في بعض الأحيان - وهذه طبيعة الحروب - كانت تخوننا الاتصالات،
إلا أن ذلك لم يمنعنا من تحقيق النصر.
عمي
العربي الذي كان يتحدث ويتوقف بين الحين والحين تحدَّث عن ظروف الحرب
الصعبة وكيف كانوا يحضرون القهوة في علب الطماطم الفارغة، وكيف وصل بهم
الجوع إلى حد كانوا يحضرون وجبات "بركوكس" للجنود ولا تمضي ساعات حتى تفرغ
القدور من الطعام، وعن حوادث أخرى ارتبطت بعودتهم إلى أرض الوطن ووصولهم
إلى تلاغ بمدينة البيّض في ظروف مناخية جد صعبة قبل أن يتوجهوا إلى مدينة
المشرية ومن ثم إلى الحدود الغربية الجزائرية للدفاع على التراب الجزائري
من الأطماع المغربية التوسعية، كان يقول عمي العربي هذا الكلام، وهو
يتحسَّر بين الفينة والأخرى على بعض من يدَّعون أنهم من قدماء محاربي الشرق
الأوسط قائلا "هنالك من يمرّ في التلفزيون ونسمعه في الراديو يتحدث عن حرب
أكتوبر.. هؤلاء كذابون ولم يشاركوا ولم يسبق لهم وأن شاركوا وأقول لهم
اتقوا الله فينا، لماذا تعدون إلى التفرقة؟.."، قبل أن يواصل حديثه متأسفا
"أدعو السلطات الجزائرية إلى أن تدوِّن هذه المحطة التاريخية وتعلِّم
أبناءَنا تاريخهم وتاريخ أجدادهم... لا تتركوا هذه الحقائق رهينة النسيان،
كما جعلتم منا منسيين ومهمشين..." ويضيف "أنا كنت من المحاربين وعانيت وأنت
ترى ظروفي الصحية.. لم أنل شيئا.. وأنا جد فخور بكوني وقفت في وجه إسرائيل برفقة الجنود الجزائريين".