كان عمره 19 سنة، عندما طعنت نكبة 1967 كبرياءه، كما طعنت كبرياء كل العرب والمسلمين، وليس مصر فقط، بعد حرب الستة أيام التي مكنت الكيان الصهيوني من أن يمدّ يديه وقدميه في البدن العربي، ويجعل العالم يتخيّل أن جيشه لا يُقهر أبداً، لم يتردد هواري بومدين الذي كان يقول إن استقلال الجزائر سيبقى مبتورا ما بقيت فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية، فقرّر أن يرسل جيشا نوعيا كان ضمنه ضيف "الشروق اليومي" السيد العربي شريفي الذي سألناه فاعتصر بندقيته ومدفعيته العتيقة وأطلق هاتهالإجابات.
دعنا نعود 46 سنة إلى الوراء؟
كان عمري حينها 19 سنة فقط، فأنا من مواليد 13 أوت 1948 بالضلعة بأم البواقي، كنت عسكريا عندما وصلنا أمر بالاستعداد للسفر إلى مصر، لنجدة مصر التي تعرضت لأكبر امتحان عسكري في تاريخها، لم أخبر حتى عائلتي وجدت نفسي في زرالدة، ومنها طرنا عبر مطار بوفاريك إلى القاهرة.
هل شممت رائحة الحرب في القاهرة؟
بل في الجو، فقد تراءت لنا الكثير من المحطات الجوية محروقة عن آخرها، كانت القاهر حزينة جدا عندما دخلناها، لم يكن قد مرّ عن النكبة سوى بضعة أيام، كان دورنا، قبل أن يكون عسكريا، هو رفع معنويات أشقائنا المصريين.
هل اختار هواري بومدين فعلا نخبة عسكر الجزائر؟
مصر أرسلت إلينا شهادات وميداليات اعتراف ولم تُوزع علينا إلى الآن
دعني أخبرك عن بعض الذين كانوا ضمن قافلتنا الأولى التي أنجدت الإخوان المصريين، فقد كان معنا الكولونيل زرقيني ونائبه النقيب عبد الرزاق بوحارة رحمه الله والجنرال المتقاعد عبد المجيد شريف، حضَّرنا أنفسنا لمدة أسبوع بزرالدة وانطلقنا وليس في مخيلتنا سوى الثأر بعد النكبة.
أنتم لم تشاركوا في حرب الاستنزاف، وإنما في حرب كلاسيكية؟
نعم لأن الحرب التي خضناها كانت تابعة لحرب النكبة، كنا مرابطين أمام قناة السويس نرد على كل هجمة صهيونية بنسف كامل لأي نقطة تنطلق منها قذيفة صهيونية، هي فعلا حرب كلاسيكية بكل المقاييس.
لكن لماذا وضع الجيش الجزائري في الخطوط الأولى؟
عندما وصلنا إلى القاهرة جوا كان العتاد والذخيرة في طريقه بحراً إلينا، لم يكن غير الجنود الجزائريين والمصريين، بومدين أخطر عبد الناصر بأنه سيرسل إليه زبدة الجيش الجزائري، وكان منطقيا أن نكون في الصفوف الأمامية.
لأي فيلق كنت منتمياً؟
إلى فيلق المدفعية المحمية من فيلق المشاة، كان مدعما بالكثير من المجاهدين الذين شاركوا في حرب التحرير والمدربين طوال سنوات الاستقلال الخمس، الإسرائيليون أنفسهم اشتكوا من الضربات الموجعة التي وصلتهم من مدفعيتنا، كانت تصلنا أصداء عن رعب لبسه الصهاينة مع مرور الأسابيع.
كيف كانت العلاقة مع الجنود المصريين؟
بعد وصولنا إلى القاهرة مكثنا مدة خمسة أيام، إلى أن وصل العتاد سرّا عبر باخرة مدنية رست في بور سعيد، تبادلنا الخبرات مع الجيش المصري، وتم رسم خطة القتال وتنقلنا إلى قناة السويس ليلا، صراحة طوال أيام القتال لم أصادف سوى المقاتلين الجزائريين والمصريين، بعد مرور فترة طويلة التقيت ببعض الجنود القلائل من السودان ومن المغرب ومن الكويت.
وكيف سارت المعارك، أعطِنا صورة عامة عن المشهد العام للمعركة؟
الدبابات كانت متمركزة بين العمارات التي تم تفريغها من السكان، القيادة المصرية منحتنا 15 درجة من صحراء سيناء لنحميها، أدِّينا دورنا على أكمل وجه، كان ضمن فيلق المدفعية الكثيرُ من أبطال الجزائر، وكان من بين المقاتلين بطلٌ نسيت إسمه، كان قد شارك في الحرب الفيتنامية، المصريون اعتبروه داهية عسكرية، كان عمره قد قارب الستين عاما، ولكن خبرته في حروب الجزائر وفيتنام والشرق الأوسط جعلته عميد مقاتلي المدفعية، لم تكن خرجاته إلا وبالاً على الجيش الصهيوني.
هل تمكنت من حصر الخسائر من الجانبين؟
ما أعلمه أن الغلبة كانت لصالحنا وبفارق كبير، كنا نحدد أهدافنا ونحققها بالتدمير الكامل لنقاط العدو، لا أذكر سوى شهيد واحد جزائري أصابته قذيفة بسبب خطأ في التمركز، النكبة حدثت في شهر جوان، ونحن كنا قد وصلنا مصر أواخر شهر جوان في عز الحرارة الشديدة، ولم نعد إلى الجزائر إلا في شهر فيفري من عام 1969 أي بعد قرابة ثمانية أشهر.
هل كانت كلها حربا ضروسا؟
كنا نرتاح كل أسبوعين بالتوجه إلى القاهرة، نقضي يوم راحة ثم نعود إلى ساحة الحرب، أذكر مرة أني عندما نزعت حذائي العسكري، تمزق جلد قدمي والتصق بالحذاء، كنا ننزل في الفنادق ونتعرف على ثقافة مصر والعالم العربي في القاهرة، أذكر أنني حضرت حفلتين للسوري فهد بلان والمصري عدوية، كانت كل الحفلات ذات أبعاد قومية.
وهل كان بومدين على اتصال بكم؟
شهادة أظن أن كل الجنود يعترفون بها؛ فالراحل لم يتركنا أبدا إلى درجة أنه كان يدللنا عن بُعد، لم نكن نتناول في معسكراتنا سوى الفول على الطريقة المصرية، كان طباخنا مصرياً لا يتقن طبخ الأطباق الجزائرية، ولكن بومدين يكرمنا باستمرار عبر طرود مليئة بالألبسة الداخلية والأطعمة الخفيفة والمعلَّبة من أجبان وأسماك وحلوى وشوكولاطة وحتى السجائر، كنا نفتخر به في موقع القتال، وكان المصريون يحترمونه ويرون فيه طوق أمان بالنسبة إليهم.
مرّ عليكم رمضان في ساحة القتال، حدثنا عن حياتكم الروحية؟
وصلتنا فتاوى لأجل الإفطار من علماء الأزهر الشريف، ومع ذلك صمنا رمضان في مكان حار جدا، أذكر أن القيادة الجزائرية قالت لنا إن الفتوى المصرية أمامنا ومنحتنا حرية التصرف، كما كان غالبيتنا يؤدي الصلاة تحت قيادة المجاهد الراحل عبد الرزاق بوحارة.
ما هي الصور التي لا تنساها من المعركة؟
كنا نترصد العدو، وكلما تجرأ من الاقتراب إلا وحددنا مكانه، وأذقناه الويلات ورفعنا مرة العلم الجزائر وسط الخراب الذي ألحقناه بالصهاينة، لقد كانت تكبيرات المصريين واعترافاتهم فخراً لنا، كما كنا نفتخر نحن أيضا بالأداء البحري الراقي للقوات المصرية، أظن أن ما حدث بين الجزائريين والمصريين بين عامي 1967 و 1973 لم يحدث له مثيلٌ في التاريخ من تلاحم جيشين تحت قيادتين نادرتين.
هل يوجد من الجنود من بقي في مصر؟
كلنا عدنا إلى الجزائر، بمجرد أن انتهت مهمتنا، أذكر أن حارس قنايزية، بقي سنتين في مصر وعايش كل أطوار حرب الاستنزاف، كما بلغني أن المصريين بعد نهاية الحرب أرسلوا لنا ميداليات وشهادات اعتراف، ولا أدري لماذا لم تُوزع علينا إلى حد الآن؟ المهم أننا في أواخر ديسمبر 1967 غيّرنا مكان المعركة، وبقيت قناة السويس مغلقة، وفي شهر فيفري 1968 عدنا من القاهرة إلى واد تليلات بوهران، وعدت إلى عائلتي التي لم أتكلم مع أي منها ولم أرسل لهم جوابا واحدا، وانضم بعدها كل جندي إلى مكان عمله الجديد، وللأسف رغم مرور 46 سنة على هذه الحرب لم أزر مصر ولو مرة واحدة.