كان من بين الذين عاينوا وقاموا بتهيئة المواقع التي ستنزل بها القوات الجزائرية في حرب الاستنزاف بمصر، أصيب في حرب 1973 على مستوى عينيه، وفقد بصره بالكامل مؤخرا إثر خطإ طبي في عملية جراحية بمستشفى عين النعجة. عايش أحداث الحربين برتبة مساعد. إنه المساعد الأول علي بوقرن، والذي يروي لنا في هذه الحلقة، جانبا من بعض الأحداث التي عايشها، وأكد فيها على شجاعة الجزائريين، وخيانة بعض المصريين في تلك الفترة.
متى التحقت بصفوف الجيش؟
- التحقت بصفوف الجيش في سنة 1966، في بني مسوس، ثم تم تحويلنا إلى باتنة، وفيها تلقيت تكوينا عسكريا في الدبابات والمدرعات. وقد تخرجت من بين الأوائل على مستوى دفعتي، وبعدها تم تعييني في الفيلق الخامس بولاية المشرية تحت قيادة النقيب خالد نزار في ذلك الوقت.
وكيف التحقت بالجبهة المصرية؟
حدث هذا في شهر سبتمبر عام 1967، تنقلنا ضمن فريق مكوّن من 16 عنصرا. وكان معنا خالد نزار وذلك من أجل معاينة الأماكن التي ستنزل بها القوات الجزائرية، فقمنا حينها بتهيئة الأراضي والمواقع المخصصة لقواتنا والتي لحقت بنا فيما بعد.
أين تم تعيينك بعدها؟
تم تعييني في منطقة معروفة تسمى الديفرسوار وتم تكليفنا بمهمة الدفاع، ثم حوِّلنا إلى منطقة تمسى البحرية وبقيت هناك أربعة أشهر ثم عدت إلى الجزائر.
وكيف كانت مشاركتك في حرب 73؟
أذكر وقتها أنني كنت في عطلة، وقد تم إبلاغُنا من طرف عناصر الدرك بضرورة التحرك سريعا والالتحاق بقوات الجيش في ولاية البليدة، قمنا بعدها بإركاب الدبابات في الشاحنات وانطلقنا برا، ومررنا بتونس ثم ليبيا ونزلنا في بنغازي، وفيها نُقل العتاد العسكري عبر السفن، بينما واصلنا نحن سيرنا إلى غاية مدينة الإسكندرية، ونُقلنا من طرف المصريين إلى جبهة القتال، وكنا في خط النار على مسافة 2 كلم أمام الإسرائيليين، في منطقة ما بين وادي النيل والقناة.
تحت قيادة مَن، الكتيبة التي كنت فيها؟
كنت في كتيبة تحت قيادة شنقريحة السعيد وهو الآن جنرال وقائد للناحية العسكرية الثالثة حاليا.
وماذا كانت مهمتك؟
أنا كنت مكلفا بالدفاع وقيادة المدرعات والدبابات.
ألم تكونوا تبادرون بعمليات ضد قوات الجيش الاسرائيلي؟
لا، نحن جاءتنا تعليمة تنص على عدم إطلاق النار على قوات الجيش الإسرائيلي، لأنه كانت بقربنا هيئة الأمم المتحدة، وكان هناك اتفاقات لوقف إطلاق النار.
ألم تطلقوا رصاصة واحدة ضد قوات الجيش الإسرائيلي؟ أقصد ألم تحدث مواجهة بين القوات التي كنت فيها والإسرائيليين؟
في الحقيقة، كما قلت لك نحن كانت مهمتنا في الدفاع والردع باستعمال المدرعات والدبابات، وكنا نقوم بتأمين تحرك قواتنا ضد قوات الجيش الإسرائيلي، إلى جانب الدفاع عن مواقعنا وتحصينها ضد هجمات الإسرائيليين، ولم نكن نتعارك معهم، كنا نتبادل إطلاق النار بطريقة غير مباشرة عبر إطلاق قذائف المدافع والدبابات، أما مباشرة وجهاً لوجه مع القوات الإسرائيلية فذلك الذي لم يحدث، كانت لدينا أوامر إذا رأينا فوهة المدفع موجهة إلينا فعلينا بإطلاق النار مباشرة دون الانتظار حتى ولو كان هذا المدفع جزائريا وفي حالة عطب.
وماذا تذكر أثناء قيامك بذلك؟
أذكر مرة أنه كنا في مهمة مسح الطريق وتأمين مقدمة الجيش وكانت القوات المصرية على الجهة اليسرى وهاجمنا الإسرائيليون من جهة اليسار وكثفوا علينا إطلاق النار فاستعنتُ بالألعاب النارية لإطلاق الدخان باستعمال المازوت وذلك لتضليل الإسرائيليين حتى يعتقدوا أنهم ألحقوا خسائر بقواتنا ويتوقفوا عن إطلاق النار وهذا الذي حدث في النهاية.
وصراحة لم تستطع القوات الإسرائيلية السيطرة علينا وهزيمتنا، والذي أرهقنا هو الخيانة، كان هناك عملاء وجواسيس يعملون لصالح إسرائيل في أوساط المصريين، مثلا بعضهم يبيعون الكاكاو لكنهم في الحقيقة هم عيون للإسرائيليين ينقلون لها تحركاتنا.
إذن نحن هنا نتحدث عن خيانة وقعت من بعض المصريين؟
طبعا، في ذلك الوقت كان كل شيء مشكوكا فيه وغامضا، والخيانة ربما جاءت من بعض المصريين، ذلك أن التخطيط للعمليات العسكرية والحربية كان يتم بالتنسيق مع قيادة القوات المصرية، وعندما هاجمتنا القوات الإسرائيلية وقصفتنا، ربما كان فيها جاسوس مندسّ أعطى الإسرائيليين إحداثيات مواقعنا، نحن تقدمنا إلى الأمام، فجاء من خلفنا الإسرائيليون فسمموا خزانات الماء، والطعام، وأخذوا الرادار الذي كان على تلة من جهة المصريين، وكل ذلك حدث ربما بتواطؤ بعض المصريين، ثم إنه إلى حد الآن لا زالت حادثة اختفاء 60 جزائريا في عام 67 من فريق الكومندوس غامضة ومجهولة..
ما قصة هؤلاء؟
كانوا يشكلون فصيلين من الكومندوس، في كل فصيل 30 عنصرا، توغلوا في صحراء سيناء من أجل فتح الطريق لقواتنا بهدف تقدمها، لكن لم يظهر لهم أي أثر حتى الآن، يقال إنهم وقعوا في كمين إسرائيلي بفعل خيانة وقعت من جانب بعض المصريين، يقال أيضا إنه تم إرجاع جثثهم إلى الجزائر، لكن حسب ما أعلم، لم يظهروا حتى الآن. وبقينا وواصلنا مشاركتنا في هذه الحرب إلى غاية رجوعنا إلى ديارنا.
وماذا قال الرئيس الراحل هوري بومدين يرحمه الله؟
بومدين ربي يرحمه، كان يقول موتوا بشرف، أو عيشوا سعداء، هناك كلام طريف قاله لا زلت أذكره، وذلك في سنة 1967، حين أردنا الانطلاق من الجزائر نحو مصر: عودوا بأسنان من ذهب، أو بأرجل من حطب، يقصد إما تفقدون أسنانكم أو تعودون معاقين.
وكيف كانت إقامتكم هناك؟ أقصد ظروف معيشتكم في أجواء الحرب؟
صراحة المعيشة لم تكن جيدة، يعني لم نكن نأكل جيدا، لكن الحمد لله كان الجو السائد بين القوات الجزائرية جوا أخويا ولم يكن هناك تمييز بين أصحاب الرتب العالية والمتدنية، كان الضباط والجنود يأكلون مع بعض، يعني كنا كلنا نأكل من قدر واحد، ولم يكن هناك تمييز فمثلا أنا كنت وشنقريحة السعيد ننام مع بعض على قطعة بلاستيك فوق دبابة.
يقال إن الطيران الجزائري كان له دور بارز في تلك الفترة؟
نعم، بالفعل، كان لدينا طيارون مهرة، كانوا حينما يمرون علينا في السماء يقومون بتحيتنا والمناورة في الجو مثل طائر الخطيف، أذكر أن طيارينا كانوا شجعانا، كانوا لا يهابون الموت.
هذا عن شجاعة الطيارين، وماذا تذكر عن شجاعة كل أفراد القوات الجزائرية التي شاركت في الحرب؟
الجندي الجزائري في جبهة القتال كان شجاعاً، وكان يخدم في الليل والنهار، يحمل الذخيرة فوق كتفه ويجري، رغم ضعف المؤونة وقلة العيش، كما كانت قيادتنا في ذلك شُجاعة، مثلا خالد نزار كان قائدا حقيقيا، كانا يشجِّع الجنود، وكان يتفقدهم في الصباح والمساء، وكان يقوم بالتوجيه باستعمال عصا صغيرة، حتى سماه البعض بنابليون، وهذا الذي جعلنا نتكاتف ونتعاون مع بعضنا البعض وكنا كتلة واحدة، وأنا شخصيا كنت أحب جيشنا وقواتنا وهذا الذي جعلني أبقى في الجيش لمدة 32 سنة.
قلت إن إسرائيل لم تستطع السيطرة عليكم، وأرهقتكم بعملائها، ألم تلجأ إلى وسائل أخرى بهدف إضعافكم؟
القوات الإسرائيلية كانت في ذلك الوقت تحت قيادة موشي دايان، وكان معه قائد يهودي لا أذكر اسمه وُلد في وهران وكان يتكلم اللهجة الوهرانية، وكان يتكلم عبر مكبرات الصوت ويقول موجها خطابه إلينا: "أيها الجزائريون هذه ليست حربكم، هذا أمرٌ بيننا وبين المصريين، عودوا إلى بلادكم حيث السكينة والبهاء والراحة". كما كان يتم بث أغاني القصْبة والبندير للشيخ حمادة بهدف التأثير فينا، ولكن دون جدوى، فالجزائريون كانوا مصممين على أداء دورهم على أكمل وجه طيلة مدة بقائهم في جبهة القتال.