هو من مواليد منطقة "تروبية" ولاية تبسة سنة 1957 التحق بصفوف جيش التحرير الوطني مبكرا، تلقى تعليمه بمسقط رأسه ثم تكوينا بسويسرا ومصر تخصَّص في سلاح المدرعات التي أهّلته لأنْ يكون مرشحا لمشاركة الجيش الجزائري في الحرب العربية الإسرائيلية متزوج وأب لـ 3 أبناء، أحيل على التقاعد سنة 2002، يتولى حاليا مهمة الناطق الرسمي لمنظمة قدماء محاربي الشرق الأوسط، ويقيم بتبسة، سألناه فنفض الغبار عن حرب عمرها أكثر من أربعين سنة.
هل يمكن أن نتحدث عن الأيام التي سبقت ساعة الحسم أو ما تعرف بالحرب الرابعة الخاصة بشهر أكتوبر1973؟
قبل ساحة الحسم كان وضع الأمة العربية والإسلامية مُحرجا للغاية، وكانت مصر تعمل في كل الاتجاهات للمِّ شمل العرب، رغم الخلاف الكبير بين القيادات العربية، خاصة وأن مصر سعت بأن تكون المواجهة مصرية إسرائيلية، إلا انه تم الاتفاق بان تكون الحرب عربية إسرائيلية، وكان للجزائر دور فعال في تلك الحرب.
فيما يتمثل هذا الدور؟
الدور كان ماديا، وكان نصيب الجزائر المقترح من الدعم لدول المواجهة من التعزيزات العسكرية، وهي تاسع دولة معنية بالدعم، بل إن الجزائر كانت هي الثانية بعد العراق، من حيث قيمة ونوعية الدعم، وشملت هذه التعزيزات عددا معتبرا من الطائرات والدبابات وغيرها من الأسلحة الأخرى.
كيف كان التنقل؟
لقد كانت رحلتنا طويلة وشاقة انطلاقا من القاعدة العسكرية بتلاغمة، نحو مصر عبر تونس وليبيا، حيث كانت الرحلة على مراحل وفق خطة أمنية دقيقة إلى غاية الوصول بمدينة السلوم المصرية. حيث دخلناها سيرا على الأقدام، لصعوبة منعرجاتها التي تشبه السلالم، وقد اغتسلنا بمياه البحر بنيَّة التطهر والدخول في القتال. ثم بدأنا بالتحرك نحو جبهة القتال وكان الزحف ليلاً للاحتياط.
والزحف نحو الخطوط الأمامية كيف كان؟
الزحف كان من موقع عسكري مهيئٍ هندسيا، يُسمّى أم كتيب، تحركت الدبابات ليلا، تزحف تحت جنح الظلام الدامس، في شكل أرتُل، وبفواصل وبسرعات منتظمة بين كل كتيبة وفصيلة، كانت الأجهزة اللاسلكية داخل غرف القتال جميعها في وضع التصنت، ولا أحد يجرؤ على تشغيلها، والرؤيا الليلية أثناء المسير كانت تتم عن طريق أجهزة الأشعة تحت الحمراء، والمقاتلون جاهزون كلهم داخل ذلك اللباس الحديدي المدرع، الذي يزن عشرات الأطنان وقلوبهم تهفو لاحتلال مواقع الشرف والكرامة للسيطرة على العدو وإنقاذ الموقف المتردي.
وكيف هي أخبار اللواء الثامن؟
كان أول موقع تخندقت به وحدات اللواء الثامن الجزائري المدرع، بعد عملية التنقل في تلك الليلة، على خط النار الأول في عملية تبديل وحدات الحرس الجمهوري جنوب شرق جبل عبيد ليلة 06 نوفمبر 1973 بالمكان المسمى أم كتيب، الذي كان دليلَنا إليه ضباط مصريون، والسير نحو المكان كان ليلا، ودون استعمال الإنارة، وبعد وصولنا مباشرة إلى هذه المواقع التي استلمناها من الحرس الجمهوري المصري، لم نكن نعرف أي شيء عن العدو الذي أصبحنا عليه في صباح الغد الباكر، عندما اتضحت الرؤية فوجدنا أنفسنا غير بعيدين عن قوات العدو، الذي احتل الطريق المعبَّدة والسكة الحديدية الرابطين بن القاهرة وبور سعيد، فقد كنا متمركزين وسط هذين الطريقين الاستراتيجيين، وكان جيش العدو الصهيوني هو الآخر أمامنا، يحتل خطي المواصلات المذكورين، وأستطيع القول هنا إن الحرب، أصبحت حرب مواصلات أكثر منها حرب مدرعات ومعدّات أخرى، وذلك لسيطرة قوات العدو على العمق خلفنا، لمنع الإمدادات إلينا، وهو ما حصل فعلا؛ ففي أول صباح، قمنا بعملية الاستطلاع على اقرب نقطة، ورسم كل رامي دبابة بطلقة نار، وعين قائد الفصيلة لكل دبابة مقاتلة المجال الذي تحرسه، وتقاتل فيه، وفق الإستراتيجية العسكرية المكتسبة من التدريب، وتحددت المهام لكل طاقم، وهنا شددنا الحراسة الجوية فوق أبراج القتال بالسلاح المضاد للطائرات، وأصبح النوم حلما بالنسبة لنا، كمقاتلين نتعامل مع الوضع الجديد على الأرض مع العدو، بقيادة قائد الكتيبة المقاتل الملازم محمد دردور، وهو القائد شجاع والمثالي في الجندية.
وكيف كانت معنويات الجنود الجزائريين؟
لقد تغير كل شيء من الناحية النفسية، ولا احد يفكر في شيء سواء مستلزمات القتال، وضرب العدو وشد الخناق عليه، ولقد كنا نرقب نهارا عدوّنا بالمناظير المعظِّمة فنلاحظ تزايد قوته يوما بعد يوم، هذا العدو الذي أصبح له عمق كبير عبر الثغرة التي أحدثها وسيطر عليها على اثر الوقفة التعبوية للجيشين الثالث والثاني قبل وصول قواتنا واحتلالها مواقع بجبهة القتال، وهذا الوضع الذي وجدناه أمامنا والتركة الثقيلة التي استلمناها.
ما هي ابرز الأحداث التي سجلتها وأنت ضمن اللواء8؟
اللواء الـ08 المدرّع الجزائري، كان من ضمن الفرقة الرابعة المدرعة وعلى خط النار الأول، أسندت له مهمة الدفاع عن الثغور المهمة، وذلك في النسق الأول، فطالما انه في النسق الثاني الذي بات نسقاً أولا، بحكم ذلك العبور المعاكس الذي صار لغزا لدى العسكريين، وغير المخفي علينا، هو مسؤولية مركزية القرار هي السبب الرئيسي فيه، وذلك لعدم إتاحة تنفيذ العمل الميداني للرجال الذين هم على الأرض بمسرح العمليات، وفي وسط المعركة، وأيضا عدم إتاحة اتخاذ روح المبادرة للقادة وهم على الأرض بجبهات القتال، ما جعل الجيش الثالث يحاصَر عسكريا واستراتيجيا خاصة من الناحية اللوجيستيكية والتموينية، ولقد ظهرت آثار الحصار وهي الحقيقة المرة، على وضع المقاتل الجزائري لأول وهلة في الجبهة، وهو الوضع الذي كنا لا نُحسد عليه، وقد تعرض المقاتل الجزائري إلى أبشع جريمة وهي عملية الإخضاع عن طريق التجويع، ولكنه كان يدرك انه سفير بلاد الشهداء.
ومن يتحمل مسؤولية هذا الحصار؟
كمقاتلين لسنا مسؤولين حقيقيين عن حدوث هذه الثغرة، التي تسللت من خلالها قوات العدو الصهيوني لترجيح الكفة لصالحها، ولتتفاوض من مركز قوة، لماذا لم تُدمَّر في حينها؟ وهي التي تسببت في حصار الجيش الثالث ونحن من مقاتليه، وكنا لا نعلم أننا محاصرون، وكل واحد منا يُعد رقما فعالا في هذا الجيش، لم نهضم كمقاتلين ما وقع لنا في تلك الأيام الصعبة، والليالي الحالكة من جوع قاتل، فذهب ظننا أن قيادتنا أخذتها العزة، فلم تطلب لنا صرف التموين، وأحيانا أخرى ذهب بنا الظن، وفينا من يرى أنها جريمة لا تُغتفر، ولكن المشكلة والكارثة أني من الذين كانوا يظنون في البداية في مسؤولينا، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تدريبا على الصبر وتحمّل الجوع، ولكن الشعور يوحي في تلك الفينة بأن للصبر حدودا خاصة في مثل هذه المواقف، وهنا نشير إلى أن هناك من حدثته نفسه، بأن أحسن حل لهذه المعضلة هو فتح النار على العدو والهجوم عليه وعدم التقيد بالأوامر من القيادة مهما كان مصدرها، بل يجب ضرب حتى قوات حفظ السلام الدولية التي بدأت تظهر للعيان، وكانت هذه الأحاسيس تُحدث من حين لآخر استياءً من الوضع الحاصل. ويبقى التاريخ كفيلا وحده بأن يحكم على المتسبب في هذا الوضع البائس من القيادة السياسة في مصر التي أفقدت القيادات العسكرية روح المبادرة نهائيا في اتخاذ قرار الحسم الميداني والنهائي، وما يترتب عنه لصالح الجيوش العربية في تلك الآونة وقد سارت الأمور على ذلك النحو حتى نهاية الحرب.
كيف كانت نظرة العدو للقوات الجزائرية؟
كانت القوات المعادية العابرة في مواجهة قواتنا، غرب قناة السويس يسيطر عليها الخوفُ والذعر الشديدان، وهو ما كنا نلاحظه بأمِّ أعيننا جميعا على تلك القوات، من خلال تحركاتها في الميدان وذلك على مدار 24 ساعة، وخلال تواجدها داخل خنادقها المجهَّزة والمعدّة بالاسمنت المسلح، وقد ظهرت الخصائص العامة لجيش هؤلاء، الذين كانوا يريدون الحسم السريع للمعركة، وقد ركزوا على القوة الجزائرية لإرباك مقاتليهم المدافعين، محاولين اختراقهم في العمق أو حتى الالتفاف والتطويق لعزلهم والتعجيل بانهيار الدفاعات المضادة الجزائرية، وتثبيتها وشل قدراتها على طول خط المواجهة، وذلك بالضغط باستعمال القصف المدفعي وعدم احترام أمر توقيف القتال لاسيما أثناء فترة الحصار، ورغم تلك التحصينات والتجهيزات الميدانية تبقى خنادق معداتنا ودباباتنا التي هيأتها لنا الهندسة العسكرية دون المستوى المطلوب، مقابل ما هو عند الصهاينة، وهي ذات القوة التي سيطرنا عليها قرابة 6 أشهر، فقد ظلت تلك القوة التي يقال إنها تحاصر اللواء 8 الجزائري، كنا نرى نحن ومن وجهة نظرنا في مسرح العمليات أن هذه القوة الغازية هي المحاصَرة ووقعت في فخ التطويق من جميع الجهات، ما عدا العمق المؤدي إليها، فهذا هو موقفنا في جبهة القتال، فقد سيطرنا على تلك القوة الغاشمة ليلا ونهارا، بدليل أننا ثبَّتنا تلك القوة المعادية التي لم تتقدم شبرا واحدا، وهذا هو الموقف الحقيقي الذي كان يقفه مقاتلو اللواء الثامن في تعامله مع العدو في الثغرة غرب قناة السويس، وفعلا أن المقاتلين ابلوا البلاء الحسن، واستبسلوا في مقاتلة العدو الغازي سواء كانوا ضباطا أو جنودا فكلهم لبسوا الحديد شهوراً عديدة وظلوا صامدين يدافعون عن كرامة الأمة وشرفها.
هل تعرضت القوات الجزائرية إلى هجوم معين؟
على إثر تحرك هذه الفصيلة وما كادت تتخندق بمرابضها عصر اليوم الموالي، حتى هزها قصفٌ شديد بمدفعية الميدان الصهيونية، وكان قائد الفيلق بوصبيعة عبد المجيد في تلك الأثناء يمدنا بتوجيهاته، ولكن قنابل المدفعية كانت في هذا الرمي المركَّز والسريع تمرُّ فوق الموقع لتضرب مواقع الكتيبة الموالية تحت إمرة الملازم بكوش محمد، وفي تلك اللحظات الحرجة التي مررنا بها تحت القصف المركز والكثيف، غضب منا قائد الفيلق أشد الغضب ولو وجد فرصة لضربنا الواحد تلو الآخر لما تردد، وهذا القائد معروف عليه الهدوء وضبط النفس، لكنه كاد ينفجر في تلك اللحظة خوفا على مقاتليه حديثي النزول في ذلك الموقع، لقد كان هذا الغضب ما يبرره إذ يرى في ذلك استهتارا بقوة العدو خاصة أننا لم نباشر بتجهيز الحفر البرميلية التي تحمينا من القصف المدفعي والجوي.
وهل هناك رد من جانبكم؟
كنا نرى نحن ومن وجهة نظرنا في مسرح العمليات أن هذه القوة الغازية هي المحاصَرة ووقعت في فخ التطويق من جميع الجهات، ما عدا العمق المؤدي إليها، فهذا هو موقفنا في جبهة القتال، فقد سيطرنا على تلك القوة الغاشمة ليلا ونهارا، بدليل أننا ثبَّتنا تلك القوة المعادية التي لم تتقدم شبرا واحدا، وهذا هو الموقف الحقيقي الذي كان يقفه مقاتلو اللواء الثامن في تعامله مع العدو في الثغرة غرب قناة السويس، وفعلا أن المقاتلين ابلوا البلاء الحسن، واستبسلوا في مقاتلة العدو الغازي سواء كانوا ضباطا أو جنودا فكلهم لبسوا الحديد شهوراً عديدة وظلوا صامدين يدافعون عن كرامة الأمة وشرفها.
نعم، فقائد الكتيبة المقاتل الملازم محمد بكوش، عسكريٌ متمرس فكان متمركزا في كتيبته ومستعملا للأرض أحسن استعمال فردَّ على مصدر النيران والمواقع الصهيونية وأسكتها، وهو بذلك خفف عنا وطأة وشدة الهجوم بمدفعية الميدان وقد اتخذت القوة الأممية من هذا التعامل ذريعة لإدانتنا وتكرار زيارتنا يوميا حتى لا نكرر قصف العدو.
كما أشير إلى أنه وفي جبهة القتال وفي الليل يشتد الضرب بين الطرفين ويختلط الحابل بالنابل في غياب الرقابة من طرف القوات الأممية، وهنا يكون المبرر والمسوغ لاستعمال السلاح متوفراً، وانك لا تكاد تعرف ليلا الجهة غير الملتزمة بتوقيف القتال.
بعد كل هذه الأحداث وغيرها كيف كانت خاتمتها؟
بعد هزيمة العدو وانسحابه إلى ما وراء الخط الذي كان عليه قبل حرب النكسة 5 جوان 1967، وفي أعقاب انسحابه مباشرة حدثت أكبر مناورة عسكرية في الشرق الأوسط شاركت فيها كافة الجيوش العربية المشاركة في معركة 6 أكتوبر1973 وقد شارك اللواء المدرّع والجيش الجزائري مشاركة فعالة بحيث دامت هذه المناورة 08 ساعات.
بعدما وضعت الحرب أوزارها، أكيد أنكم بدأتم تسترجعون أسماء فقدتموها؟
أكيد كل واحد منا تذكر أسماء من بلدته، ومن الجزائر عامة، لكن الرقم الحقيقي لا يزال إلى يومنا مجهولا، والذي يملك الحقيقة هي وزارة الدفاع الوطني، وهناك مصادر عديدة للضباط الذين قادوا هذه المعارك بشرف، بالإضافة إلى المقاتلين الذين يذكرون أسماء رفاقهم، ويبكون عليهم بمرارة، وقد احترقت رؤوسهم شيبا، وبعضهم فقدوا ذاكرتهم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا المبادئ والقيم تبديلا، كما أننا لا يمكننا نسيان رجال الصاعقة الذين استشهدوا رفقة قائدهم عباس والذين يُقدر عددهم بـ 400 رجل رحمهم الله.
خلاصة القول ما تقييمك للحروب التي خاضتها الجيوش العربية والجزائرية ضد العدو الصهيوني؟
في حقيقة الأمر لا يمكن لعاقل أن ينكر النصر المسجل في أكتوبر 1973 على العدو الصهيوني عسكريا وسياسيا، فقد كان منعطفا تاريخيا، حرك الجمود والركود العربي منذ النكسة، التي دامت ست سنوات ظلت بين المد والجزر، في حروب سميت بحروب الاستنزاف، وهي حروب طغت عليها حروب السياسة والكلام، والتي ليست حربا حاسمة فتأرجحت بين اللاّ سلم واللاّ حرب، حتى جاء نصر أكتوبر المجيد، الذي يعدُّ بحق ردا للاعتبار والثأر لنكسة 5 جوان1967، فحرب أكتوبر1973 كانت النتائج تتكلم عن نفسها، ودون مبالغة أن الدول العربية في هذه الحرب ولأول مرة وفي ظرف وجيز أظهرت قوتها الكامنة، التي استعملتها أحسن استعمال في جميع مجالاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية....ولكن؟
ولكن ماذا؟
رغم كل ما قمنا به في هذه الحرب، مازال الكثير يجهل هذه التضحيات ومازلنا في قائمة المنسيين، نسعى إلى يومنا هذا للحصول على الأقل على الاعتماد الرسمي لتنظيم أنفسنا كشريحة لعبت دورا هاما على المستوى الإقليمي وسجلت اسم الجزائر بأحرف من ذهب.